08‏/02‏/2013

شروط الجمع بسبب المطر



موضوعنا لهذه اليوم المبارك سيدور حول جمع الصلاة بسبب المطر. هذه المسألة يقع الخلاف حولها في كل شتاء ، وترتفع الأصوات ، وتحصل المشاحنات ، ويفترق المصلون في المسجد الواحد فريقين منهم من يطلب الجمع ويسعى له بشدة وحدة ويحاول جادا أن يجبر الإمام عليه، ومنهم من يرفضه جملة وتفصيلا ويحاول أن يفهم الإمام أن الجمع محرم .
وفي الحقيقة هذه المسألة هي مسألة خلافية قديمة فإمام الأئمة وفقيه الفقهاء وصاحب أول مذهب فقهي صاحب الفطنة والذكاء والعقل والدهاء ، محاور الفلاسفة ، الإمام أبو حنيفة النعمان يمنع الجمع بسبب المطر في جميع الأحوال ويرى أن من جمع بسبب المطر فقد ارتكب محرما وإثما لأنه أخرج الصلاة عن وقتها الشرعي الذي حدده النبي e . هذا رأي أبي حنيفة ومذهبه وكما قيل (الناس عيال على أبي حنيفة) يجيز أبو حنيفة النعمان الجمع الصوري وهو : تأخير الصلاة الأولى لآخر وقتها وتعجيل الثانية لأول وقتها هذا أقصى ما يراه رحمه الله. وهو نفسه رحمه الله الوحيد الذي يرى جواز إخراج زكاة الفطر مالا !!!! . وبعض الناس في المسألة الأولى يرمون رأيه عرض الحائض وفي المسألة الثانية يأخذون برأيه مع أنه مخالف لجمهور الفقهاء في ذلك . 

هذا فريق ، وفريق آخر: أجاز الجمع بين صلاة المغرب والعشاء دون الظهر والعصر. وهذا هو مذهب الحنابلة الذي عليه عامة علماء البلد الحرام في الوقت الحاضر ، حيث يقولون الجمع بين الظهر والعصر حرام، ولا تقبل صلاة العصر، وإنما الجمع بين المغرب والعشاء فقط؛ لأن في وقتهما تحصل المشقة في ظلمة الليل ولا يرون ذلك في الظهر و العصر .
وهناك فريق ثالث : يجيز الجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، إذا وجد السبب الشرعي. وهذا القول أصح  الأقوال وأرجحها عندي والله أعلم ؛ لأنه ثبت في صحيح مسلم، عن عبد الله بن عباس t أنه قال: (جمع النبي e بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء في المدينة من غير خوف ولا مطر) .
وهناك فريق رابع لا يجيزون جمع العصر مع صلاة الجمعة ، بل يحرمون ذلك تحريما قطعيا ؛ لأن الجمعة ليست من جنس العصر ، ولم ينقل عن النبي e أن جمع العصر مع الجمعة . وقد تحدى العلامة ابن عثيمين  أن يأتي أحدٌ بحديث صحيح أو ضعيف أن الرسول e جمع بين العصر والجمعة .
ومن أباح الجمع بسبب المطر اشترط له شرطا مهما ألآ وهو(المشقة) المشقة التي يسببها المطر ، أما من غير مشقة ولو بنزول المطر فيُمنع الجمع بل يحرم لأن في هذه الحالة تصلى الصلاة في غير وقتها من غير سبب وهذا حرام وهو من كبائر الذنوب - كما نقل ابن تيمية عن عمر t - وفيه تجرؤ على حدود الله . وقد عد العلامة ابن اعثيمين إقامة الصلاة قبل وقتها أعظم من الزنا وشرب الخمر يقول رحمه الله : (أما مجرد نقطة مطر أو بلل في الأرض والسماء واقفة فهذا لا يجوز، هذا تلاعب بدين الله، أن يقدم الصلاة عن وقتها بدون عذر شرعي مثل من فعل أكبر كبيرة، مع أننا لو شاهدنا أحداً يزني أو يشرب الخمر أنكرنا عليه، الصلاة قبل وقتها بدون عذر شرعي أكبر من هذه .. لماذا؟ لأن إضاعة الصلاة ركن من أركان الإسلام، ليست هينة، المسألة ليست لعباً، وفقه الشرع ليس إلى المبتدئين في العلم، بل إلى العلماء الذين رسخوا في العلم، وعلموا موارد الشريعة ومقاصدها) انتهى كلامه .
 والمشقة حددها العلماء بأن يحصل مع المطر ما يمنع المصلي الوصول للمسجد أو يشق عليه الوصول شقا عظيما ذلك :
(كالمطر الشديد) الذي يبلل الثياب ويغرقها فيسبب معه مشقة فلا يصل إلا وقد اخترق الماء ثيابه ووصل إلى  جسده فبرده أو إذا  عصر ثيابه انعصرت ، أو كان المطر غزيرا نتج عنه وقف السير وإغلاق المتاجر وتعطيل المصالح .
فإذن : اشترط المجيزون للجمع أن يكون المطر مبللا للثياب وموجدا للمشقة ، يقول ابن اعثيمين رحمه الله :(وعند الشك هل هذا عذر يبيح الجمع أم لا؟ لا يجوز أن نجمع مع الشك, فالمطر -مثلاً- إذا كان ينزل ونرى أنه يبل الثياب, ومعنى يبل الثياب: أن الثوب يحتاج إلى عصر من هذا المطر, ليس مجرد أن تقع القطرة من الماء ثم يبتل الثوب, هذا ليس عذراً)
وقال رحمه الله في فتوى أخرى : (وقد قال العلماء رحمهم الله: لا يجوز الجمع للمطر، إلا لمطر يبل الثياب / وبَللها معناه: أنه لو عُصرت الثياب لخرج منها المطر، ليس مجرد النقطة والنقطتين، إلا لمطر يبل الثياب، وتوجد معه مشقة احترازاً مما لو جاء المطر في أيام الصيف، أيام الصيف يفرح الواحد إذا جاء ثوبَه ماءٌ يبرده، ما في مشقة، لكنهم قالوا: لا بد من مطر يبل الثياب، وتوجد معه مشقة) انتهى كلامه
وإما أن تحدث المشقة بالطريق بسبب المطر وهو ما يسميها الفقهاء(مشقة الطريق)  كأن يصبح هناك :
أ. برك ومستنقعات من الماء تحول دون وصول المصلين للمسجد.
ب. أو أن يسبب المطر (طينا شديدة ووحلا شديد وزَّلَقا) في الطريق يشق على المصلين السير فيها خوفا من الانزلاقات والتأذي الشديد.
ج. أو أن يسبب المطر سيولا في الأرض تجرف التربة والحجارة وتهدد البيوت وتعيق المارة و تشق عليهم الوصول للمسجد.



سؤل العلامة ابن عثيمين : ما هو ضابط المطر الذي يبيح جمع الصلاتين ؟
فأجاب : ما تحصل به المشقة ؛ إما لغزارته ما يسمى عندنا) الوبل) ، أو لحصول مستنقعات توجب المشقة في بلوغ المسجد ، أو يصحب بريح باردة . فمداره على المشقة . أما أن يكون خفيفاً ، ويجمعون لتوقع زيادته ، فلا . ومن جمع من غير مسوغ شرعي وجبت عليه إعادة الصلاة المجموعة ) انتهى كلامه.
فإذن: رخصة الجمع تدور مع المشقة وجودها وعدمها ، وأما بدون مشقة أو بمظنة المشقة فإنه لا يجوز الجمع .
لذا أدرج شيخ الإسلام ابن تيمية (الريح الشديدة الباردة القارصة في الليلة الظلماء) أدرجها ضمن المشقة المعتبرة؛إذ إن المشقة في الوصول إلى المسجد في مثل هذه الحال أعظم من المشقة في الوصول إلى المسجد بالمطر. [طيعا أيامه لم يكن هناك كهربتء في الطرقات].
و المشقة تدور مع جميع الأحكام ، فقد قرر الأصوليون (أن المشقة تجلب التيسير) لذا يجوز الجمع للمريض الذي يشق عليه أن يصلي كل صلاةٍ في وقتها، سواء كان ذلك لضعفٍ في البدن، أو لعدم استمساك البول أو الغائط أو الريح؛ لأن النبي e أجاز للمستحاضة أن تجمع؛ لأنها يشق عليها أن تتوضأ لكل صلاة، فكل من حَـدَثـُه دائم فإنه يجوز له أن يجمع لمشقة الوضوء عليه لكل صلاة.
وينبغي أن تكون المشقة على معظم مصلي الحي لا على أفراد قلائل من الحي ، فلا عبرة بالرجل والرجلين والثلاث والأربع من جماعة المسجد، يقول العلامة ابن عثيمين رحمه الله : (لو كانت المشقة تكون لرجل أو رجلين أو ما أشبه ذلك دون بقية الجماعة فلا عبرة بهؤلاء، العبرة بالأكثر، وهؤلاء الأقل إذا كان يشق عليهم أن يحضروا إلى المسجد في الصلاة الثانية [بسبب كبر سنهم أو ضعف بدنهم فهم يتأذون من البرد المعهود] فلهم الرخصة أن يصلوا في بيوتهم، كما جاء في الحديث: (الصلاة في الرحال)).
ويقول العلامة ابن عثيمين رحمه الله : (ومن الناس من تجده يجمع بدون مشقة، حتى لو نزلت نقط يسيرة من المطر جمع، وبعضهم إذا رأى السماء ملبدة بالغيوم جمع، وهذا أيضاً محرم ولا يحل، ومن جمع لغير عذرٍ فقد أتى كبيرة من كبائر الذنوب، وسيتقلد آثام هؤلاء الذين صلوا قبل الوقت؛ لأن جمع الثانية للأولى معناه صلاتها قبل وقتها، وهذا حرام، إنما لابد من مشقة، إما من مطرٍ نازل يبل الثياب بحيث تتشرب الثياب المطر حتى تنعصر إذا عصرت، وإما بمشقة الطريق، وأما بدون مشقة فإنه لا يجوز؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً [النساء:103] وقد بين النبي e أوقات هذه الصلوات، فلا يحل أن نتعدى حدود الله فنجمع بدون عذرٍ شرعي.
- ومن الناس من هو معتدل مستقيم إذا رأى المشقة جمع، وإذا لم يكن ثَمَّةَ مشقة لم يجمع، فهذا الذي هو على هدى مستقيم، وهو الناصح لنفسه ولمن وراءه من الجماعة.
لهذا يجب على طلبة العلم أن يبينوا للأئمة هذه المسألة بياناً واضحاً حتى لا يتجرأ أحدٌ على الجمع بدون عذر، ولا يتأخر أحدٌ عن الجمع إذا وجد عذراً) انتهى كلامه رحمه الله .
الخطبة الثانية
الواجب على كل مسلم أن يتحرى في عباداته كلها ما يوافق الشرع المطهر ، وأن يحذر ما يخالف ذلك . وأن يحرص أن يصلي الصلوات في أوقاتها ، لذا تجد كثيرا من الأئمة الموفقين لا يتسرعون في الجمع بل أحيانا يضطرون أن يعرضوا هذا الموضوع على من هو أعلم منهم حتى لا يقعوا في الإثم ويتحملوا خطايا وآثام من يصلون خلفهم ؛ فالمسألة جد خطيرة فها بعضهم يعرض الأمر على اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في المملكة العربية السعودية حيث يسألها السؤال التالي : (إننا في منطقة الباحة في هذا الوقت يكثر الضباب الكثيف الذي قد يحجب الرؤية أحيانا وهناك أمطار على فترات وبرد شديد ولا نعرف هل يجوز لنا أن نجمع الصلاة في هذه الظروف؟ نرجو من سماحتكم إفادتنا في هذا الأمر والله يرعاكم ويحفظكم.(26/7 المجموعة الثانية)
ج: يجوز الجمع بين المغرب والعشاء إذا كان هناك مطر نازل يبل الثياب أو وحل يصعب على المصلين الوصول معه إلى المسجد دفعا للحرج عن المصلين وأما الضباب فليس عذرا في إباحة الجمع.... [تكملة من(مجموع الفتاوى 22 / 30 - 31) لنفس اللجنة ] ...... والذين يسارعون إلى الجمع لمجرد وجود غيم أو مطر خفيف لا يحصل منه مشقة ، أو لحصول مطر سابق لم ينتج عنه وحل في الطرق ، فإنهم قد أخطأوا خطأ كبيرا ، ولا تصح منهم الصلاة التي جمعوها إلى ما قبلها ؛ لأنهم جمعوا من غير عذر ، وصلوا الصلاة قبل دخول وقتها). اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاءعضو: عبدالعزيز آل الشيخ عضو: صالح الفوزان الرئيس : عبدالعزيز بن عبد الله بن باز
وطُرح على العلامة ابن عثيمين سؤالا من أحد الأئمة أثناء  اللقاء الشهري الذي كان يعقده رحمه الله ، وهذا نص السؤال: (فضيلة الشيخ : الإنسان يخشى من الإثم وخاصة الأئمة، يخشى الإمام من الإثم في الجمع إذا جمع؛ لأنه يخاف ألا يكون فعله مسوغاً للجمع، ويخاف من الإثم إذا ترك الجمع؛ لأنه يخاف من تشديده على من وراءه وتأثيره عليهم وخصوصاً وقد ورد: من ولي من أمر أمة النبي eشيئاً فشدد عليهم أن يشدد الله عليه، فماذا يفعل وأيهما أحوط الجمع أم عدمه؟ )
فأجاب رحمه الله : ( ..... إذا تردد بين الجمع وعدمه لعدم اتضاح السبب المسوغ؛ فإن الأصل ألا يجمع؛ لأن الجمع يحتاج إلى ثبوت السبب، فإذا لم يثبت فإن الأصل عدم الجمع فلا يجمع، ولكن إذا لم يجمع ثم انصرف الناس من الصلاة إلى بيوتهم ثم حدث مطر يؤذي فللناس أن يصلوا في البيوت ويكتب لهم الأجر كاملاً؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل صحيحاً مقيماً). إذاً: الواقع أنه قد يتيقن المشقة، أو يتيقن عدم المشقة، أو يغلب على ظنه المشقة، أو يغلب على ظنه عدم المشقة، أو يتردد / فمتى يكون الجمع؟ يكون الجمع إذا تيقن المشقة أو ترجح عنده وجود المشقة، أما إذا علم أن لا مشقة أو ترجح عنده أن لا مشقة أو شك فلا يجمع.
 

إرسال تعليق

تابع كل جديد برسالة الكترونيه لـ إيميلك فورا