03‏/11‏/2012

الغلام والطاغية

 

الغلام والطاغية

 بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين ، وبعد : 

خطب الحجاج بن يوسف الثقفي في الناس وصلى بهم الجمعة ، ثم مشى بجانب سجنه ، فبكى السجناء ورفعوا أصواتهم بالبكاء ؛ علّه أن يسمَعَهم فيرحَمَهم ، فسمعهم ثم قال لهم(اخْسؤوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ) .
إلا أنه وقف أمامه غلام فأخرسه وصغره بين جلسائه ، فما قصة الغلام مع هذا الظالم ؟
دخل غلام لا يتجاوز العاشرة من عمره على الحجاج في قبته الخضراء وعنده الأمراء والوزراء والحاشية والخدم والحرس .
فنظر الغلام إلى القبة وقلب بصره فيها ثم قال بسخرية واستهزاء: (أتبنون بكل ريع آية تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون وإذا بطشتم بطشتم جبارين).
وكان الحجاج متكئا فاستوى جالسا وقال : (يا غلام إني أرى لك عقلا وذهنا, أحفظت القرآن) ؟.
قال الغلام : (أخفت على القرآن من الضياع حتى أحفظه فقد حفظه الله تعالى (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) ).
قال الحجاج : (أجمعت القرآن) ؟.
قال الغلام : (أو كان متفرقا حتى أجمعه ( إنا علينا جمعه وقرآنه)  ) ؟ .
فأخذت الحجاج الدهشة وراح يفكر ثم قال : (أأحكمت القرآن)؟.
قال الغلام : (أوليس الذي أنزله حكيما حتى أحكمه ؟ (كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير) ) .
فقال الحجاج : (أو استظهرت القرآن) ؟ .
قال الغلام : ( معاذ الله أن أجعل القرآن ورائي ظهريا).
قال الحجاج : (ويلك ماذا أقول .
قال الغلام : (الويل لك أنت , قل : أوعيت القرآن في صدرك) ؟ .
فتنهد الحجاج ثم قال : (اقرأ عليَّ شيئا من القرآن) .
فجلس الغلام واستفتح قائلا : (أعوذ بالله منك ومن الشيطان الرجيم, بسم الله الرحمن الرحيم :(إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يخرجون من دين الله أفواجافبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا)) .
فصاح الحجاج : (ويلك إنهم يدخلون) !! .
قال الغلام : (نعم إنهم كانوا يدخلون في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأما الآن فإنهم يخرجون).
قال الحجاج : (ولم) ؟ .
قال الغلام : (لسوء فعلك بهم ) .
فتوقع من في المجلس أن يأمر الحجاج بقتل الغلام.
ولكنه سأله: (من أنت) ؟ .
قال الغلام : (عبد الله) .
قال الحجاج : (من أبوك) ؟ .
قال الغلام : (الذي زرعني) .
قال الحجاج : (أين نشأت .
قال الغلام : (في الجبال) .
قال الحجاج : (من أرسلك إلي) ؟ .
قال الغلام : (عقلي) .
قال الحجاج : (أفمجنون أنت) ؟ .
قال الغلام : (لو كنت مجنونا لما وقفت بين يديك كأني ممن يرجو فضلك ويخاف عقابك) . الحجاج : (ناولني هذه الدواة) .
قال الغلام:  (لا) .
قال الحجاج : (ولم) ؟ .
قال الغلام : (أخاف أن تكتب بها معصية فأكون شريكك فيها) .
قال الحجاج : (ولكن أريد أن آمر لك بخمسين ألف درهم تستعين بها على ألا تعود إلينا).
فضحك الغلام .
قال الحجاج : (ما أضحكك .
قال الغلام :(عجبت لجرأتك على ربك , تصدق بهذا المبلغ على من ظلمتهم وأهلكت راعيهم فإن الحسنات يذهبن السيئات).
فأطرق الحجاج ثم قال : (ما رأيك في أمير المؤمنين) ؟ .
قال الغلام:  (رحم الله أبا الحسن) .
قال الحجاج:  (بل قصدت عبد الملك بن مروان) .  
قال الغلام:  (على الفاسق الفاجر لعنة الله) .
قال الحجاج : (ولَمَ يستحق منك اللعنة) ؟ .
قال الغلام:  (والله لا أنكر فضله ولكنه أخطأ خطيئة ملأت السماء والأرض) .
قال الحجاج:  (وما تلك) ؟.
قال الغلام:  (حَكَمَكَ على الناس وأنت ظالم ، ووضعك في موضع لا تستحقه , تستبيح دماء الناس وأموالهم بغير حق) .
قال الحجاج:  (أتعرف من تكلم) ؟ .
قال الغلام:  (نعم, شيطان بني ثقيف الحجاج) .
فغضب الحجاج غضبا شديدا, واستفتى من حوله قائلا: (ما ترون في أمر هذا الغلام) ؟ .
قالوا : (يسفك دمه) .
عند ذلك قال الغلام : (جلساء أخيك خير من جلسائك يا حجاج) .  
قال الحجاج:  (أخي؟ من؟ الوليد) ؟ .
قال الغلام: (بل فرعون, فإنه لما استفتى جلساءه في موسى أشاروا عليه بتركه , وهؤلاء أشاروا عليك بقتلي) .  
فقام رجل من القوم وقال : (هبه لي يا مولاي) .  
قال الحجاج:  (هو لك لا بارك الله لك فيه ) .
فضحك الغلام حتى احمر وجهه ثم قال : )والله لا أدري أيكما أحمق من الآخر , الواهب أم المستوهب) ؟ .
فقال الرجل : (أأنجيك من القتل وتقابلني بهذا) ؟ .
قال الغلام : (أو تملك لنفسك نفعا أو ضرا) ؟.
قال الرجل : (لا) .  
قال الغلام :(فكيف تملك لنفسي أنا) ؟ .
فأخذ الحجاج بفصاحة هذا الغلام وقال : (يا غلام أمرنا لك بمائة ألف درهم , وعفونا عنك لصغر سنك , ورجاحة عقلك , فاخرج ولئن رأيتك في مجلسي هذا فسأدق عنقك).
قال الغلام : (ما كنت لأقبل هبة تذيلها لفظات التهديد والوعيد , أما عفوك فبيد الله لا بيدك يا حجاج , لا جمعني الله وإياك حتى يلتقي السامري وموسى) . ثم خرج من عنده .

وكدتُ بأخمُصي أَطأُ الثُريَّا
وأن صيَّرت أحمدَ لـي نبيِّا

 

ومما زادني شـرفـًا وفخـرًا
دخولي تحت قولك"يا عبادي


إرسال تعليق

تابع كل جديد برسالة الكترونيه لـ إيميلك فورا