الغلام والطاغية
بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين ، وبعد :
خطب الحجاج بن يوسف الثقفي
في الناس وصلى بهم الجمعة ، ثم مشى بجانب سجنه ، فبكى السجناء ورفعوا أصواتهم
بالبكاء ؛ علّه أن يسمَعَهم فيرحَمَهم ، فسمعهم ثم قال لهم(اخْسؤوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ)
.
إلا أنه وقف أمامه غلام
فأخرسه وصغره بين جلسائه ، فما قصة الغلام مع هذا الظالم ؟
دخل غلام لا يتجاوز العاشرة من عمره على
الحجاج في قبته الخضراء وعنده الأمراء والوزراء والحاشية والخدم والحرس .
فنظر الغلام إلى القبة وقلب بصره فيها ثم قال
بسخرية واستهزاء: (أتبنون بكل ريع آية تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم
تخلدون وإذا بطشتم بطشتم جبارين).
وكان الحجاج متكئا فاستوى جالسا وقال : (يا غلام
إني أرى لك عقلا وذهنا, أحفظت القرآن) ؟.
قال الغلام : (أخفت على القرآن من الضياع حتى أحفظه فقد حفظه الله تعالى
(إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)
).
قال الحجاج : (أجمعت القرآن) ؟.
قال الغلام : (أو كان متفرقا حتى أجمعه ( إنا علينا جمعه وقرآنه) ) ؟ .
فأخذت الحجاج الدهشة وراح يفكر ثم قال : (أأحكمت القرآن)؟.
قال الغلام : (أوليس
الذي أنزله حكيما حتى أحكمه ؟ (كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير)
) .
فقال الحجاج : (أو
استظهرت القرآن) ؟ .
قال الغلام : ( معاذ الله أن أجعل القرآن ورائي
ظهريا).
قال الحجاج : (ويلك ماذا أقول)؟ .
قال الغلام : (الويل
لك أنت , قل : أوعيت القرآن في صدرك) ؟ .
فتنهد الحجاج ثم قال : (اقرأ عليَّ شيئا من القرآن) .
فجلس الغلام واستفتح قائلا : (أعوذ بالله منك ومن الشيطان الرجيم, بسم الله الرحمن الرحيم :(إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يخرجون
من دين الله أفواجافبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا))
.
فصاح الحجاج : (ويلك
إنهم يدخلون) !! .
قال الغلام : (نعم
إنهم كانوا يدخلون في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأما الآن فإنهم يخرجون).
قال الحجاج : (ولم) ؟ .
قال الغلام : (لسوء فعلك بهم ) .
فتوقع من في المجلس أن يأمر الحجاج بقتل
الغلام.
ولكنه سأله: (من أنت)
؟ .
قال الغلام : (عبد الله) .
قال الحجاج : (من أبوك) ؟ .
قال الغلام : (الذي زرعني) .
قال الحجاج : (أين نشأت)؟ .
قال الغلام : (في الجبال) .
قال الحجاج : (من أرسلك إلي) ؟ .
قال الغلام : (عقلي) .
قال الحجاج : (أفمجنون أنت) ؟ .
قال الغلام : (لو كنت مجنونا لما وقفت بين يديك كأني ممن يرجو فضلك ويخاف
عقابك) . الحجاج : (ناولني هذه الدواة)
.
قال الغلام: (لا) .
قال الغلام: (لا) .
قال الحجاج : (ولم) ؟ .
قال الغلام : (أخاف أن تكتب بها معصية فأكون شريكك فيها) .
قال الحجاج : (ولكن أريد أن آمر لك بخمسين ألف درهم تستعين بها على ألا تعود
إلينا).
فضحك الغلام .
قال الحجاج : (ما أضحكك)؟ .
فضحك الغلام .
قال الحجاج : (ما أضحكك)؟ .
قال الغلام :(عجبت
لجرأتك على ربك , تصدق بهذا المبلغ على من ظلمتهم وأهلكت راعيهم فإن الحسنات يذهبن
السيئات).
فأطرق الحجاج ثم قال : (ما رأيك
في أمير المؤمنين) ؟ .
قال الغلام: (رحم الله أبا الحسن)
.
قال الحجاج: (بل قصدت عبد الملك بن
مروان) .
قال الغلام: (على الفاسق الفاجر
لعنة الله) .
قال الحجاج : (ولَمَ يستحق منك اللعنة) ؟ .
قال الغلام: (والله لا أنكر فضله
ولكنه أخطأ خطيئة ملأت السماء والأرض) .
قال الحجاج: (وما تلك) ؟.
قال الغلام: (حَكَمَكَ على الناس
وأنت ظالم ، ووضعك في موضع لا تستحقه , تستبيح دماء الناس وأموالهم بغير حق)
.
قال الحجاج: (أتعرف من تكلم)
؟ .
قال الغلام: (نعم, شيطان بني
ثقيف الحجاج) .
فغضب الحجاج غضبا شديدا, واستفتى من حوله
قائلا: (ما ترون في أمر هذا الغلام) ؟ .
قالوا : (يسفك دمه)
.
عند ذلك قال الغلام : (جلساء أخيك خير من جلسائك يا حجاج) .
قال الحجاج: (أخي؟ من؟ الوليد)
؟ .
قال الغلام:
(بل فرعون, فإنه لما استفتى جلساءه في موسى أشاروا عليه
بتركه , وهؤلاء أشاروا عليك بقتلي) .
فقام رجل من القوم وقال : (هبه لي يا مولاي) .
قال الحجاج: (هو لك لا بارك الله
لك فيه ) .
فضحك الغلام حتى احمر وجهه ثم قال : )والله لا أدري أيكما أحمق من
الآخر , الواهب أم المستوهب)
؟ .
فقال الرجل : (أأنجيك من القتل وتقابلني بهذا) ؟ .
قال الغلام : (أو تملك لنفسك نفعا أو ضرا) ؟.
قال الرجل : (لا)
.
قال الغلام :(فكيف
تملك لنفسي أنا) ؟ .
فأخذ الحجاج بفصاحة هذا الغلام وقال : (يا غلام أمرنا لك بمائة ألف درهم , وعفونا عنك لصغر سنك ,
ورجاحة عقلك , فاخرج ولئن رأيتك في مجلسي هذا فسأدق عنقك).
قال الغلام : (ما
كنت لأقبل هبة تذيلها لفظات التهديد والوعيد , أما عفوك فبيد الله لا بيدك يا حجاج , لا جمعني الله وإياك حتى يلتقي السامري
وموسى) . ثم خرج من
عنده .
وكدتُ بأخمُصي أَطأُ
الثُريَّا
وأن صيَّرت أحمدَ لـي نبيِّا |
ومما زادني شـرفـًا وفخـرًا
دخولي تحت قولك"يا عبادي |
إرسال تعليق